لقد كانت مدرسة الإمام الباقر(ع) مدرسة منفتحةً على المسلمين كلِّهم، فلا تضيق بفكر يختلف عن فكرها، ولا تتعقّد من أيِّ سؤال، بل تتلقّى كلَّ ذلك بصدر رحب، وتناقش في شتى الموضوعات من دون أيِّ حرج.. ومن هنا كانت قيمة مدرسة الإمام الباقر(ع) ، أنَّها ضمّت مختلف المذاهب والاتجاهات المذهبيّة، فنحن نجد أنَّ الطبري في تاريخه يسند الكثير مما ينقله في هذا التاريخ إلى الإمام محمد الباقر(ع) ، لأنَّه(ع) كان يشارك في حركيّة الواقع، فينقل الطبري في تاريخه أنَّ ملك الروم في عهد الدولة الأموية هدّد عبد الملك بن مروان بعدما أراد هذا الأخير تبديل العملة، وكانت العملة المتداولة آنذاك هي الرومية، فأرسل إليه ملك الروم أنَّك إذا بدّلتها فسأصدر عملةً أذكر فيها سبَّ نبيّكم، وأطلق هذا التهديد في وجهه، واحتار عبد الملك، فكيف يمكن له أن يتراجع عن موقفه الذي يُضعف موقف الدولة، وإذا تراجع، فإنَّ عملة سيصدرها ملك الروم سيُنقش فيها سبّ النبيّ(ص)، فأشير عليه أن يرسل إلى الإمام محمد الباقر ليستقدمه إلى الشام، وإعطاء الرأي في الإصرار على إصدار عملة إسلاميّة، وهكذا كان .. فعندما أتاه(ع) بيّن له ما يُكتب فيها، وقال: "تدعو في هذه الساعة بصنّاع، فيضربون بين يديك سِككاً للدراهم والدنانير، وتجعل النقش صورة التوحيد وذِكرَ رسول الله(ص)، أحدهما في وجه الدرهم والآخر في الوجه الثاني، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكرَ البلد الذي يُضرَب فيه والسنَة التي يُضرَب فيها"، وطلب إليه أن يُلزم المسلمين آنذاك باستعمال هذه العملة، وألا يستعملوا عملة ملك الروم تحت طائلة العقوبة، وعندما أدرك ملك الروم إصرار الدولة على ذلك ألغى قراره، وبذلك أنقذالإمام الباقر(ع) الواقع الإسلامي من أزمة حقيقيّة.
من هنا، عندما ندرس هذا التراث الكبير الذي تركه الإمام الباقر(ع)وولده الإمام الصادق(ع)، فإنّنا نلتقي بالآفاق الفلسفيّة في حركة العقيدة الإسلاميّة، ونلتقي بالآفاق الفقهيّة من خلال الانفتاح على الشريعة الإسلاميّة، ونلتقي بالقِيَم الإسلامية المتحرّكة في السلوك والعلاقات والمواقف، وفي الأوضاع الداخلية التي يعيشها الإنسان مع ربِّه ومع الإنسان الآخر. ويروي الشيخ المفيد في الإرشاد: "وكان أبو جعفر محمد بن عليّ بن الحسين(ع) من بين إخوته خليفة أبيه عليِّ بن الحسين ووصيَّه والقائم بالإمامة من بعده، وبرز على جماعتهم بالفضل في العلم والزهد والسؤدد، وكان أنبههم ذكراً وأجلّهم في العامة والخاصة وأعظمهم قدراً، ولم يظهر عن أحد من وُلد الحسن والحسين(ع) من علم الدين والآثار والسّنّة وعلم القرآن والسيرة وفنون الآداب ما ظهر على أبي جعفر(ع)، وروى عنه معالمَ الدين بقايا الصحابة ووجوه التابعين ورؤساء فقهاء المسلمين، وصار بالفضل به عَلَماً لأهله تُضْرَبُ به الأمثال وتسير بوصفه الآثار والأشعار"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق