ـ وإذا كان المثقّف الديني يحمل الهمّ الديني ويعمل لتحكيم الدين في الحياة بالدرجة التي يؤمن بها، فإن المطلوب منه أن يحمل مشروعاً للتغيير فيكون إنساناً رساليّاً، وأن يعمل لصالح المشروع هذا، أي أنّه مطالب بالفعل الإيجابي الذي يحقّق مشروعه وأهدافه في المجتمع، ومن ثم فلا يجوز له هدر طاقته بالفعل السلبي الذي يستنـزف ذاته، في ردّات فعل أو إسقاط مشاريع أخرى لا غير.
إنّ ملاحظةً بإمكاننا تسجيلها على المثقّف الديني المعاصر وهي أنّه استهلك نفسه في نقد التيارات السلفيّة أو التراثية أو المدرسيّة، وأَخَذَ يلاحق مفردةً مفردة، بل صار شغله الشاغل وعمله الدائم تتبّع عثرات ذلك التيار والعمل على نقضها بأساليب مختلفة، ليس آخرها أسلوب الاستهزاء والاستخفاف المعبّر عن نرجسية عالية وعن طاووسيّة غير عاديّة، لقد أذاب المثقف نفسه في ملاحقة هذه الهفوة هنا أو تلك السقطة هناك، وإذا به ينفض الغبار عنه فيرى أنه لم يحقّق شيئاً، ولم ينجح في مدّ جسور العلاقة الطيبة مع مجتمعه فبقي غريباً تُهجر حِكَمُه، ويُتعامى عن كلامه.
بل لقد ألقى هذا المثقف _بعد فشله _باللائمة على التيارات الأخرى أو على مجتمعه مطهّراً نفسه ومنـزّهاً إيّاها عن الخطأ أو التقصير... مستخدماً على الدوام المنطق الذي طالما حاربه، وهو منطق المؤامرة وإلقاء الفشل على الآخر...
أين هو مشروع المثقّف المتديّن؟ وماذا يريد؟ ولماذا بقي هذا المثقف عاجزاً عن تحقيق أهداف كبرى؟ ولم يتمكّن من كسر الطوق عنه؟
أسئلة كثيرة، لا نريد أن نظلم المثقّف هذا بتحميله هذه المسؤوليات كلّها، بل نحن نقرّ إقراراً عميقاً بصعوبة الموقف، وخطورته في الوقت نفسه، لكن مع ذلك نعتقد أن لهذا المثقف في آليّاته، وفي انفعالاته وردّات فعله دور في القطيعة التي وقعت بينه وبين مجتمعه، مهما نعتنا هذا المجتمع بالتخلّف والرجعيّة.
5 ـ وإذا كنّا نطالب المثقّف الديني بأن يحمل الهمّ الديني ويُبدي عواطفه الدينيّة، فإن لذلك أثراً جليّاً، إن هذا المثقف استغرق في نقد المقولات الدينية... كانت بادرة شريفة منه أن ينقد الموروث ليميز بين ما هو من الدين وما علق به عبر السنين، لكننا أحياناً وجدنا هذا المثقف خجلاً من أن يناصر مقولةً دينيةً، عندما يكون مقتنعاً بها، كي لا يبدو أمام الآخرين أنّه أيديولوجي أو متخلّف، بل قد يغضّ هذا المثقف الطرف أحياناً عن نقد غير منطقي موجّه للدين ـ وفقاً لرؤيته ـ ولا يفتح جبهةً من النـزاع الفكري والثقافي، ولكنه في المقابل لا يتحفّظ عن فتح جبهات لنقد التيارات السلفية أو التراثية أو المدرسيّة، لماذا ينأى المثقّف الديني بنفسه عن أن يُتّهم بأنه متصدٍّ للدفاع عن الدين، ولا ينأى بنفسه عن أن يكون ناقداً للموروث الديني رغم أن الوظيفتين شريفتان، ومسؤوليّتان يتحملهما هذا المثقف على السواء؟!
وإذا كان المثقف يرفض النـزعة الدفاعية فإن هذا حقّه، بل نحن نرى معه بأنّ الأولويّة في هذا العصر للنـزعة البنائية لا الدفاعية، إلا أنّ هذا لا يعني أن يغض الطرف _دوماً أو غالباً _عن ممارسة دفاع عن الأفكار الدينية عندما تتعرّض لنقد تجديفي أو لمناقشة علمية.
6 ـ وحيث كان المثقّف الديني مهمشاً ـ ظلماً وعدواناً ـ في مجتمعه، بل مقموعاً أحياناً من جانب السلطة السياسية أو تحالفها مع الاقتصاد، أو مقموعاً أخرى من جانب التيارات التراثية.. فإن من الطبيعي أن تبدو لديه أحياناً ردّات فعل سلبية تحاول فك القيود المفروضة عليه، وقد تأخذ ردّة الفعل هذه طابعاً معرفياً عندما يحاول نقد الموروث مقدّمةً لنقد واقعه، في محاولة تعبّر عن مطالبته بذاته وبدوره في الحياة، وهذه كلّها أمور منطقية مترقّبة، لكننا نريد أن نقرأها من الناحية القيمية، نريد أن نؤكّد أنّ على المثقف مجانبة الانتفاض الهائج على المفاهيم الموروثة انطلاقاً من واقعه هو، ومن ثمّ لا ينبغي له التركيز على تلك المقولات التي تسلبه دوره ككيان اجتماعي بعيداً عن صحة هذه المقولات أو بطلانها، ولكي أقرّب الفكرة بمثال، يمكن أن نأخذ مسألة التقليد والاجتهاد، فمهما كان موقفنا منها، وهذا حقّنا، لكن يجب أن نحذر من أن نتخِذ موقفاً سلبياً منطلقاً في اللاوعي من أن هذه المقولة تسبّب غياب دور المثقف لصالح رجال الدين، ومؤسسة علماء الدين.. إن مراقبة الذات عن أن تتحكّم في أفكارنا نتيجة أوضاع معينة يبدو لازماً لتحقيق أكبر قدر ممكن من الأمانة والموضوعية والإخلاص للعلم.
وما نقولـه لا يخصّ المثقف المتدين بل هو ظاهرة عامّة تطال غيره على السواء، ومن ثم كما لا يحق التنظير وخلق المفاهيم لتكريس الواقع والمحافظة على المواقع، كذلك لا يصحّ النقد وهدم المفاهيم إذا كان في تكريس الواقع مضرّة على الجماعة المعيّنة، وإذا لم نبذل الجهد في التعالي عن هذه المعارك الحزبية والفئوية الضيقة، ولم نفكر في الأمّة كلّها بما لها من امتداد في الزمن فسوف نبقى ندور في دوّامات لانهاية لها.
5 ـ وعندما يكون المثقّف الديني صاحب مشروع تغيير، يغدو لزاماً عليه أن لا يقتل نفسه في شرنقة خطاب النخبة، لقد قطعت أواصر العلاقة بين المثقّف والمجتمع، وكان من أسباب ذلك عزوفه عن مجتمعه، واكتفاؤه بالعيش في الأبراج العاجيّة للثقافة وفي الصالونات المخمليّة كذلك، كان الآخر يبني ـ انطلاقاً من إرث تاريخي ـ علاقات استراتيجيّة مع الجماهير، وهو ما لم يفعله المثقّف، فخاصم أمّته، وربما كانت الأمم الأخرى أهون على قلبه من أمّته.
إن المثقّف الديني يتعذّب من هذا الوضع، ويجب عليه أن يفكر في حلّ، ولعل أوّل الحلول خلق روح التواضع والعيش مع الناس في روح هذا المثقف، وتحويله من منظّر فكري بحت إلى إنسان رسالي تطال رسالته الناس وهمومها كما تطال الثقافة وتشعّباتها، ومن ناقد لاذع فقط إلى أمّ رؤوم تعنيها مشاعر طفلها لإصلاحه بقدر ما يعنيها إرشاده إلى الخطأ..
الكاتب: حيدر حبّ الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق