ثقافتنا الجديدة
الجمعة، 1 مايو 2015
الأربعاء، 29 أبريل 2015
الإمام الجواد(ع): معجزة الإمامة , السيد محمد حسين فضل الله (قدس سره )
الإمام الجواد(ع)، هو الذي انفتح على خطِّ الإمامة مبكراً، بحيث يمكن أن يَصْدُق عليه ما صدق على "يحيى"(ع) في نبوّته {واتَيْناهُ الحُكْمَ صبيّاً}[مريم:12]، وعاش بعد وفاة أبيه الإمام عليّ بن موسى الرضا(ع) مسؤوليّة الإمامة، حيث يمكننا أن نسمّيه بـ"الإمام المعجزة"، لأنَّ إمامته انفتحت على كلِّ الواقع وهو بعدُ في سنِّ الصِّبا، حيث حيّر العقول بعلمه الوافر وإجاباته عن أعقد المسائل، وقدرته على تبيان حكم الله في شريعته..
وقد استطاع(ع) منذ حداثة سنِّه أن يُظهر ثبات الإمامة وصلابتها، حيث يروي محمد ابن طلحة فيقول: "لما تُوفّي والده الرِّضا(ع) وقدم الخليفة المأمون إلى بغداد بعد وفاته (أي الرِّضا) بسنة، اتفق أنَّه خرج إلى الصَّيد، فاجتاز بطرف البلد في طريقه، والصبيان يلعبون ومحمد (الجواد) واقفٌ معهم، وكان عمره يومئذٍ إحدى عشرة سنة فما حولها. فلما أقبل المأمون انصرف الصبيان هاربين، ووقف أبو جعفر محمد(ع) فلم يبرح مكانه، فقرب منه الخليفة، فنظر إليه، وكأنَّ الله عزَّ وعلا ألقى عليه مسحةً من قبول، فوقف الخليفة، وقال له: يا غلام، ما منعك من الانصراف مع الصبيان؟ فقال له محمد (الجواد) مسرعاً: "يا أمير المؤمنين، لم يكن بالطريق ضيقٌ لأوسّعه عليك بذهابي، ولم يكن لي جريمة فأخشاها، وظني بك حَسَنٌ إنّك لا تضرُّ من لا ذنب له، فوقفت"().
إنّ هذه الكلمات العاقلة المتزنة تدلّ على وعي عميق للأمور التي تترك تأثيرها على الإنسان في مواجهته للسلطة لتدفعه إلى الخوف والهرب منها، فلماذا يخاف إذا لم تكن له جريمة يعاقب عليها؟ ولماذا يتراجع عن موقعه في الطريق إذا كان يتسع لمرور الآخرين من دون أن يضيّق عليهم بمكانه ليزول عنها؟! وإذا كان الحاكم متوازناً عادلاً في أحكامه وعلاقته بالناس، فلماذا يخشى منه إذا كان بريئاً من كل ذنب؟! هذا بالإضافة إلى شجاعة الموقف وجرأة الخطاب وصلابة الإرادة، مما لا يصدر من صبي يختزن عقل الصبا في شخصيته، بل إن ذلك يكشف عن عقل مفكر واسعٍ منفتح على الواقع من خلال ملكة قدسية ربانية.. وهذه هي الملكة التي فرضت احترامه على المأمون وعلى الناس المحيطين به، كما نرى ذلك فيما بعد.
وممن روى النصّ عن أبي الحسن الرضا(ع) على ابنه أبي جعفر الجواد(ع) بالإمامة، "عليّ بن جعفر وصفوان بن يحيى ومعمر بن خلاد والحسين بن بشّار وابن أبي نصر البزنطي وابن قياما الواسطي والحسن بن الجهم وأبو يحيى الصنعائي والخيرائي ويحيى بن حبيب الزيّات في جماعة كثيرة يطول بذكرهم الكتاب"(2). وجاء في تاريخ المسعودي بإسناده عن محمد بن الحسين بن أسباط، قال: "خرج عليّ أبو جعفر، فجعلت أنظر إليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر، فقال لي: يا علي بن أسباط، إنَّ الله احتجَّ في الإمامة بمثل ما احتجَّ به في النبوّة، فقال: {وآتيناه الحُكمَ صبيّاً} وقال لما بلغ أشدَّه: {آتيناهُ حكماً وعلماً}.. فقد يجوز أن يُؤتى الحكم صبياً ويؤتاه ابن أربعين"(3).
وروى الشيخ المفيد في كتاب (الإرشاد): "وكان المأمون قد شُغِف بأبي جعفر(ع) لِما رأى من فضله من صِغَر سنِّه، وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل ما لم يساوِه فيه أحدٌ من مشايخ أهل الزمان، فزوّجه ابنته أمَّ الفضل وحملها(ع) معه إلى المدينة، وكان متوفِّراً على إكرامه وتعظيمه وإجلال قَدْره. روى الحسن بن محمد بن سليمان، عن عليِّ بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه، عن الريّان بن شبيب قال: لما أراد المأمون أن يزوّج ابنته أمَّ الفضل أبا جعفر محمد بن عليٍّ(ع)، بلغ ذلك العباسيّين، فَغَلُظَ عليهم واستكبروه، وخافوا أن ينتهيَ الأمر معه إلى ما انتهى مع الرِّضا(ع) (بأن أعطاه ولاية العهد)، فخاضوا في ذلك، واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه، فقالوا له: ننشدُك اللهَ يا أمير المؤمنين، ألاّ تُقيمَ على هذا الأمر الذي قد عزمتَ عليه من تزويج ابن الرِّضا، فإنَّا نخاف أن يَخرج به عنا أمرٌ قد ملّكناه الله، ويُنْزَع منا عِزٌّ قد ألبسناه اللهُ، وقد عرفتَ ما بيننا وبين هؤلاء القوم (من بني هاشم) قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء الراشدون (العباسيّون) قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم، وقد كنا في وهلةٍ من عملك مع الرضا ما عملت، حتى كفانا الله المهمَّ من ذلك، فاللهَ الله أن ترُدَّنا إلى غمٍّ انحسر عنّا، واصرِفْ رأيك عن ابن الرضا، واعدل إلى من تراه من أهل بيتك يَصْلُح لذلك دون غيره.
فقال لهم المأمون: أمّا ما بينكم وبين آل أبي طالب، فأنتم السبب فيه، ولو أنصفتم القوم لكان أولى بكم، وأمّا ما كان يفعله مَن كان قبلي بهم، فقد كان قاطعاً للرحم، أعوذ بالله من ذلك، وواللهِ ما ندمتُ على ما كان مني من استخلاف الرّضا، ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه من نفسي فأبى، وكان أمر الله قَدَراً مقدوراً، وأما أبو جعفر محمد بن عليّ فقد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل مع صِغَر سنِّه، والأعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه، فيعلموا أنَّ الرأي ما رأيتُ فيه.
فقالوا: إنَّ هذا الصبيَّ وإن راقك منه هَدْيُه، فإنَّه صبيٌّ لا معرفة له ولا فقه، فأمهله ليتأدّب ويتفقّه في الدنيا، ثم اصنع ما تراه بعد ذلك، فقال لهم: ويحكم، إنني أعْرَفُ بهذا الفتى منكم، وإنَّ هذا من أهل بيتٍ عِلمُهم من الله وموادّه وإلهامه، لم يزل آباؤهُ أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حدِّ الكمال، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبيّن لكم به ما وصفتُ من حاله.
قالوا له: قد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولأنفسنا بامتحانه، فَخَلِّ بيننا وبينه لِنَنْصِبَ من يسأله بحضرتك عن شيءٍ من فقه الشريعة، فإن أصابَ في الجواب عنه لم يكن لنا اعتراضٌ في أمره، وظهر للخاصة والعامة سديدُ رأي أمير المؤمنين، وإن عجز عن ذلك فقد كُفينا الخطب في معناه.
فقال لهم المأمون: شأنكم وذاك متى أردتم، فخرجوا من عنده وأجمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم، وهو يومئذ قاضي القضاة، على أن يسأله مسألةً لا يعرف الجواب فيها، ووعدوه بأموالٍ نفيسة على ذلك، وعادوا إلى المأمون، فسألوه أن يختار لهم يوماً للاجتماع، فأجابهم إلى ذلك.
واجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه، وحضر معهم يحيى بن أكثم، وأمر المأمون أن يُفرَش لأبي جعفر(ع) دَسْتٌ (أي جانب من البيت) وتُجعل له فيه مِسْوَرَتان (متكأ)، فَفُعِل ذلك، وخرج أبو جعفر(ع)، وهو يومئذٍ ابن تسع سنين وأشهر، فجلس بين المسورتين، وجلس يحيى ابن أكثم بين يديه، وقام الناس في مراتبهم (أخذ كلٌّ مكانه حسب رتبته الرسميَّة)، والمأمون جالسٌ في دَسْتٍ متصلٍ بدست أبي جعفر(ع).
فقال يحيى بن أكثم للمأمون: يأذن لي أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر؟ فقال له المأمون: استأذنه في ذلك، فأقبل عليه يحيى بن أكثم، فقال: أتأذن لي ـ جُعلت فداك ـ في مسألة؟ فقال له أبو جعفر(ع): "سل إن شئت" قال يحيى: ما تقول في مُحْرِم "الإنسان أثناء الإحرام في الحجّ) قَتلَ صيداً؟
فقال له أبو جعفر: "قتله في حلٍّ أو حَرَم؟ عالماً كان المُحْرِم أم جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حُرّاً كان العبد أم عبداً؟ صغيراً كان أم كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أم معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيدُ أم من غيرها؟ من صِغار الصيد كان أم من كبارها؟ مُصِرّاً على ما فعل أو نادماً؟ في الليل كان قتلُه للصيد أم نهاراً؟ مُحرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان مُحرماً".
فتحيّر يحيى بن أكثم، وبان في وجهه العجزُ والانقطاع، ولجلج حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره، فقال المأمون: الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي، ثم نظر إلى أهل بيته، وقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟
ثم أقبل على أبي جعفر(ع)، فقال له: أتخطب يا أبا جعفر؟ قال: "نعم يا أمير المؤمنين"، فقال له المأمون: أُخْطُبْ، جُعلت فداك لنفسك، فقد رضيتك لنفسي وأنا مزوّجُك أمَّ الفضل ابنتي وإن رَغَم قومٌ لذلك. ثم قال له المأمون: فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألةٍ كما سألك. فقال أبو جعفر ليحيى: "أسألك". قال: ذلك إليك، فإن عرفتُ جوابَ ما تسألني عني وإلاَّ استفدتُه منك.
فقال أبو جعفر(ع): "خبِّرْني عن رجلٍ نظر إلى امرأةٍ في أوّل النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النهار حُلّت له، فلما زالت الشمس حَرُمت عليه، فلما كان وقت العصر حُلّت له، فلما غربت الشمس حَرُمت عليه، فلما دخل عليه وقت العشاء بالآخرة حلّت له، فلما كان انتصافُ الليل حَرُمَت عليه، فلما طلع الفجر حلّت له، ما حالُ هذه المرأة، وبماذا حلّت له وحرُمت عليه؟".
فقال له يحيى: لا والله ما أهتدي إلى جواب هذه المسألة، ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيت أن تُفيدناه.
فقال له أبو جعفر(ع): "هذه أمَةٌ لرجلٍ من الناس، نظر إليها أجنبيٌّ في أوّل النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلّت له، فلما كان الظهر أعتقها فَحَرُمَت عليه، فلما كان وقتُ العصر تزوّجها فحلّت له، فلما كان وقتُ المغرب ظاهر منها فَحرُمت عليه، فلما كان وقتُ العشاء الآخرة كفّر عن الظِهار فحلّت له، فلما كان نصف الليل طلّقها واحدةً فَحَرُمت عليه، فلما كان عند الفجر راجعها فحلّت له".
فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم: هل فيكم أحدٌ يجيب عن هذه المسألة بمثلِ هذا الجواب أو يعرفُ القول في ما تقدّم من السؤال؟
قالوا: لا والله، إنَّ أمير المؤمنين أعلمُ وما رأى"(4).
وهذا ما يجعلنا نقول إنَّه "الإمام المعجزة"، لأنَّه بهذا العلم الواسع الذي اختصّه الله به وألهمه إيّاه، كان معجزةً في ذلك حتى صَغُر كبار علماء زمانه أمامه.
وإننا نسجّل عدة ملاحظات في هذه الرواية:
الملاحظة الأولى: أن بني العباس كانوا حريصين على بقاء الخلافة فيهم، ولذلك كانوا شديدي الحساسية بأية علاقة بين الخلافة وبين أيّ شخص من أهل البيت(ع)، حذراً من أن تؤدي إلى التفاف الناس حوله من خلال هذه العلاقة، أو انفعال الخليفة بقيمته الروحية والعلمية التي قد تجتذبه إلى تأهيله للخلافة من بعده، كما حدث ذلك في الموقف من الإمام علي الرضا(ع).. وهذا ما واجه به المأمون قرابته، بأن عرّفهم قيمة أهل البيت وتميّزهم عليهم بالعلم والروحية والتقوى والقرب من الله، ما يجعلهم الأَوْلَى بالخلافة في عناصرها الحيوية المميزة، وتحدّث إليهم عن المظالم التي قام بها الخلفاء من قبله ضدّ أهل البيت مما لا يجوز القيام به على أساس العدل، ولذلك استعاذ بالله أن يفعل فعلهم في هذا الاتجاه، ثم أكّد موقفه من إعطاء ولاية العهد للإمام الرضا(ع) وإصراره عليه على أن يكون هو الخليفة لولا أنّ الإمام رفض ذلك.. وقد قدّر الله لهذا الأمر أن لا يتم بوفاته.
الملاحظة الثانية: أن موقف المأمون يدلّ على أن أهل البيت(ع) قد فرضوا أنفسهم على المجتمع بما يتميزون به من الصفات والفضائل، حتى على موقع الخلافة الذي لا يرى الأشخاص إلا من خلال علاقتهم بالمُلك الذي يحيط به، فلا ينظر بعين الموضوعية للأشياء، ما يجعل موقفه في دائرة العصبية الذاتية لا في دائرة النظرة العادلة، كما يدلّ على إنصاف المأمون في نظرته إلى الإمام الجواد(ع)، أو إحساسه بالحاجة إلى أن يتخلّص من الماضي القريب في تعامله مع الإمام الرضا(ع) في وفاته، بلحاظ ما يُنسب إليه من التسبب فيه.
الملاحظة الثالثة: أن الإمام الجواد(ع) انطلق في سعة علمه ليؤكّد للمجتمعين حوله في موقع التحدّي ممن يشير إليهم الناس بالمعرفة والإحاطة والموقع التنفيذي للحكم والقضاء في مركز السلطة، بأنه يملك العلم الذي لا يخطىء في فكر، والفقه الرحب الذي لا يضيق بمسألة بالرغم من صغر سنه الذي أوحى إليهم بأنه لا يملك تحليل الفكر أو الإجابة عن سؤال، وأنه إذا كان متّصفاً بالهدى والخُلق كنتيجةٍ لتربيته، فإنه لا يتّصف بالمعرفة العلمية التي تحتاج إلى المزيد من الوقت والدراسة الطويلة للحصول عليها.. فكانت المفاجأة الصدمة لهم أن تغلّب على أكبر قاضٍ في البلد بالرغم من اتفاقهم معه على تحضير المسائل الصعبة التي تكشف قلة علمه حسب زعمهم، وكانت الغلبة له في هذا الحوار، بحيث تحوّل السائل المتحدي إلى مسؤول لا يملك التوازن أمام تحدي الإمام(ع) له.
الملاحظة الرابعة: أن الأئمة من أهل البيت(ع) كانوا يقبلون التحدي ولا يضيقون به، فينفتحون على الحوار ويستجيبون للأسئلة التي تطرح عليهم في الحال من دون حاجة إلى وقتٍ يتأملون فيه، أو إلى دراسة يراجعون فيها الكتاب هنا وهناك.. ما يوحي بأنّ العلم لديهم يتسع لكل علامات الاستفهام في أذهان السائلين.. وهذا هو الذي يؤهّلهم للإمامة التي تملك موقع القيادة الذي لا يملكه الآخرون، كما جاء على لسان الخليل بن أحمد الفراهيدي في تقديمه الإمام علي(ع) على غيره بقوله: "احتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكلّ دليل أنه أمام الكل". وهذا هو الدرس الذي ينبغي للقيادات الإسلامية أن تتمثّله في ساحة المواجهة الثقافية للقوى المضادة من المثقفين، وذلك بأن تملك العلم الواسع الذي يتيح لها القدرة على قبول التحدي في أيّ حوارٍ أو سؤال، حتى يؤكدوا الحجة في الموقف والغلبة في الصراع، من أجل إخضاع الآخرين للحق بالضغط العلمي الواسع.
حول حداثة سنّ الجواد(ع) وخلافته لأبيه
1 ـ جاء في الأحاديث عن عبد الله بن جعفر قال: دخلت على الرِّضا(ع) أنا وصفوان بن يحيى، وأبو جعفر(ع) قائمٌ قد أتى له ثلاث سنين، فقلنا له: جعلنا الله فداك، إنْ ـ وأعوذ بالله ـ حَدَثَ حَدَثٌ، فمن يكون بعدك؟ قال: ابني هذا ـ وأومأ إليه ـ فقلنا له: وهو في هذه السنّ؟ قال: نعم، وهو في هذه السنّ، إنَّ الله تبارك وتعالى احتجَّ بعيسى وهو ابنُ سنتين"(5).
2 ـ في الإرشاد: "أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمّد، عن محمد بن يعقوب، عن الحسين بن محمد، عن الخيراني عن أبيه، قال: كنت واقفاً بين يدي أبي الحسن الرضا(ع) بخراسان، قال قائلٌ: يا سيدي، إن كان كونٌ فإلى مَن؟ قال: "إلى أبي جعفر ابني"، فكأنّ القائل استصغر سنَّ أبي جعفر(ع)، فقال أبو الحسن(ع): "إنَّ الله بعثَ عيسى بن مريم رسولاً نبيّاً صاحب شريعة مُبْتَدَأةٍ في أصغرَ من السنِّ الذي فيه أبو جعفر(ع)"().
3 ـ أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن معمر بن خلاّد قال: سمعت الرضا(ع) وذكر شيئاً (من علامات الإمام وأشباهه) فقال: "ما حاجتكم إلى ذلك، هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيّرته مكاني" وقال: "إنَّا أهلُ بيتٍ يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القُذّة بالقُذّة"(7).
ونلاحظ في هذه النصوص أنّ الإمام الرضا(ع) الذي كان يؤكّد مستوى الإمامة في شخصيّة الإمام الجواد(ع) وهو في السنّ المبكرة من عمره، أراد أن يبيّن للناس الذين يسألونه عن الإمام من بعده، أنّ في الإمامة عنصراً غيبياً لا يخضع للوسائل العادية المتعارفة لدى الناس، وأنّ عليهم أن يتمثَّلوا ذلك في الملكات القدسية في مستقبل أمره مما يتعرفون فيه الدليل على ذلك.
وجاء في الكافي بسنده عن محمد بن الحسن بن عمار قال: "كنت عند علي بن جعفر بن محمد جالساً بالمدينة، وكنت أقمت عنده سنتين أكتب عنه ما سمع من أخيه ـ يعني أبا الحسن ـإذ دخل أبو جعفر محمد بن علي الرضا المسجد ـ مسجد رسول الله(ص) ـ فوثب علي بن جعفر بلا حذاء ولا رداء فقبّل يده وعظّمه، فقال له أبو جعفر: يا عم، اجلس رحمك الله، فقال: يا سيدي، كيف أجلس وأنت قائم، فلما رجع علي بن جعفر إلى مجلسه، جعل أصحابه يوبخونه ويقولون: أنت عم أبيه وأنت تفعل به هذا الفعل؟ فقال: اسكتوا! إذا كان الله عزّ وجلّ ـ وقبض على لحيته ـ لم يؤهّل هذه الشيبة وأهَّل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه أُنكر فضله؟ نعوذ بالله مما تقولون بل أنا له عبد"(8).
إنّ هذه الشهادة من الثقة الجليل علي بن جعفر ـ وهو مَن هو في فضله ووثاقته وكبر سنّه ـ تدل على أنّ إمامة الإمام الجواد كانت في موقع الوضوح والتسليم عند كبار بني هاشم، ولذلك كان تعظيمه له وتواضعه لمقامه الإمامي بكلمته "وأنا له عبد"، هي أكبر شاهد على ذلك.. أما أولئك الذين كانوا محيطين بعليّ بن جعفر، فقد لاحظوا المسألة من حيث كبر السن وتقدّم درجة النسب لأنه عم أبيه، ولكنه ردّ عليهم بأنّ القضية هي قضية اللطف الإلهي الذي أعطاه مركز الإمامة ففضّله عليه، ولم يعط ذلك له، كأنه يقول لهم إنّ ميزان الإمامة لا يخضع للاعتبارات التي تسيطر على ذهنياتكم في مسألة التقويم.
من رسائل الإمام الرضا(ع) إلى ولده الجواد(ع)
عندما كان الإمام الرضا(ع) في خراسان، والإمام الجواد(ع) في المدينة، كتب إليه: "بسم الله الرحمن الرحيم، أبقاك الله طويلاً وأعاذك من عدوِّك يا ولدي، فداك أبوك، قد فسّرت لك مالي وأنا حيٌّ سويٌّ، رجاء أن ينمّيك الله بالصلة لقرابتك وموالي موسى وجعفر (الكاظم والصادق)، وقال الله: {مَن ذا الذي يُقرضُ الله قرضاً حسَناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة}[البقرة:245]، وقال: {لينفق ذو سَعَةٍ من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله}[الطلاق:7]، وقد أوسع الله عليك كثيراً يا بنيّ، فداك أبوك، لا تستر دوني الأمور لحبِّها فتخطىء حظَّك والسلام"(9).
إنَّ هذه الرسالة تريد للإمام الجواد(ع) وهو في هذه السنّ المبكرة أن يتحمّل مسؤولية قرابته بالصلة، تأكيداً لصلة الرحم وممارسته لدوره في القيام مقام أبيه في غيبته عن المدينة، وأن يتابع له الأخبار لإرسالها إليه، ونلاحظ قوله(ع): "فداك أبوك" التي تُوحي بعمق المحبة والعاطفة الأبويّة، لا سيما وأنَّ الإمام الجواد(ع) كان وحيده الذي يملأ شغاف قلبه.
وفي رسالة له أيضاً: "يا أبا جعفر، بلغني أنَّ الموالي إذا ركبتَ أخرجوك من الباب الصغير، وإنَّما ذلك من بخلٍ بهم لئلاّ ينال منك أحدٌ خيراً، فأسألك بحقّي عليك، لا يكن مدخلك ومخرجُك إلاَّ من الباب الكبير، وإذا ركبت فليكن معك ذهبٌ وفضّةٌ، ثم لا يسألك أحدٌ إلاّ أعطيته، ومن سألك من عمومتك أن تبرّه فلا تُعطه أقلَّ من خمسين ديناراً والكثير إليك، ومَن سألك من عمّاتك فلا تعطها أقلَّ من خمسةٍ وعشرين ديناراً والكثير إليك، إنّي أريد أن يرفعك الله، فأنفق ولا تخشَ من ذي العرش إقتاراً"().
وهذه الرسالة تؤكّد على الإمام الجواد(ع) ألاّ يخضع للمحيطين به من الخدم والأتباع الذين كانوا يتعقّدون من سؤال الناس، ولا سيما الأقرباء له، في حاجاتهم، حتى يعزلوه عن المجتمع ويبعدوه عن العلاقة الإنسانية بأفراده مما يحتاجه في موقع إمامته المستقبليّ، فأراد له أن يتمرّد على هؤلاء الموالي المحيطين به، وينفتح على الناس بالعطاء من موقع ثقته بالله الذي يعوّض على المنفقين ما أنفقوه من المال ويرفع درجتهم عنده وعند الناس.
مسؤوليّات الإمامة وتوجيهاتها
ورغم صغر سنِّ الإمام الجواد(ع)، والذي عاش حوالي الخمسة والعشرين سنة، فقد روى عنه جمعٌ من العلماء، وقد عدّدهم السيد الأمين رحمه الله فقال: "قال الخطيب (البغدادي) في تاريخ بغداد: أسند محمد بن علي (الجواد) الحديث عن أبيه (الرضا).. وفي المناقب: كان بوّابه عثمان بن سعيد السمّان، ومن ثقاته أيوب بن نوح بن درّاج الكوفي، وجعفر بن محمد بن يونس الأحول، والحسين بن مسلم بن الحسن، والمختار بن زياد العبدي البصري، ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب الكوفي، ومن أصحابه شاذان بن الخليل النيسابوري، ونوح بن شعيب البغدادي، ومحمد بن أحمد المحمودي، وأبو يحيى الجرجاني، وأبو القاسم إدريس القمّي، وعلي بن محمد، وهارون بن الحسن بن محبوب، وإسحاق بن إسماعيل النيسابوري، وأبو حامد أحمد بن إبراهيم المراغي، وأبو علي بن بلال، وعبد الله بن محمد الحصيني، ومحمد بن الحسن بن شمون البصري. وقال (صاحب المناقب) في موضع آخر: وقد روى عنه المصنفون نحو أبي بكر أحمد بن ثابت في تاريخه، وأبي إسحاق الثعلبي في تفسيره، ومحمد بن منده بن مهربذ في كتابه"().
وهكذا انطلق الإمام الجواد(ع) يعيش مع أصحابه ومع الناس من حوله مسؤوليّة الإمامة في توجيه النّاس وفي تعويدهم على التسامح والانفتاح حتى مع الذين يختلفون معه في الرأي، لا سيما إذا كانوا من الأقرباء.. وقد كتب شخصٌ إليه وقال له: إنَّ أبي ناصب من النواصب خبيث الرأي يبغضكم ويسبُّكم ويعاديكم، وقد لقيت منه شِدّة وجهداً، فرأيك في الدعاء لي وما ترى ـ جُعلت فداك ـ أفترى أن أكاشفه أو أداريه؟ فكتب إليه الإمام الجواد(ع): "قد فهمت كتابك وما ذكرته من أمر أبيك، ولست أدع الدعاء لك إن شاء الله، والمداراة خيرٌ من المكاشفة ـ يعني ما دام أنَّه أبوك فحاول معه باللطف والحسنى ـ فلعله يميل إليك، وإلى ما أنت فيه بعد ذلك، ومع العُسر يسرٌ، فاصبر فإنَّ العاقبة للمتقين، ثبّتك الله على ولاية مَن تولّيت، نحن وأنتم في وديعة الله الذي لا تضيع ودائعه"(12)، ويقول هذا الرجل إنَّ أباه بعد ذلك انفتح عليه وأصبح لا يخالفه في أيِّ شيء من أموره، وذلك بفضل دعاء الإمام وتوجيهه له.
ويروي بعض أصحابه وهو: "أبو هاشم الجعفري" يقول: "سمعت أبا جعفر يقول: إنَّ في الجنّة باباً ـ والذي يحبُّ الجنّة فليقرأ هذه الكلمة جيّداً وليعمل بها ـ يُقال له المعروف، لا يدخله إلاّ أهل المعروف". فحمدت الله في نفسي ـ فالظاهر أنَّ هذا الرجل كان وجيهاً يقضي حوائج الناس، وفرحت بما أتكلّف من حوائج الناس، فنظر إليّ وقال لي: نعم ـ وكأنّه عرف ما في نفسه ـ تمّ على ما أنت عليه، فإنّ أهل المعروف في دنياهم هم أهل المعروف في الآخرة"، فإذا كنت من أهل المعروف في الدنيا، فإنَّ الله يجعلك من أهل المعروف الذين يدخلون من باب "المعروف" إلى الجنّة.
وقد ورد عن الصدوق بإسناده عن علي بن مهزيار قال: "قلت لأبي جعفر الثاني (الجواد)(ع): قوله عزَّ وجلّ: {والليلِ إذا يغشى* والنّهارِ إذا تجلّى} [الليل:1ـ2]، وقوله عزَّ وجلّ: {والنّجمِ إذا هوى} [النجم:1]، وما أشبه هذا، فقال: إنَّ الله عزَّ وجلّ يُقسم من خلقه بما يشاء، وليس لخلقه أن يُقسموا إلا به عزَّ وجلّ"(13).
وعن الكليني بسنده إلى عثمان بن سعيد من أهل همدان عن أبي ثمامة، قال: "قلت لأبي جعفر الثاني(ع): إنّي أريد أن ألزم مكّة أو المدينة وعليَّ دَيْنٌ، فما تقول؟ فقال: ارجع فأدّه إلى مؤدي دَيْنك وانظرْ أن تلقى الله عزَّ وجلَّ وليس عليك دَيْن، إنَّ المؤمن لا يخون"(14).
إنَّ الإمام الجواد(ع) يؤكّد بأنَّ مجاورة مكّة والمدينة لا تبرّر لهذا الإنسان أن يترك دَيْنَه بدون وفاء، لأنَّ ذلك يمثّل خيانة، والمؤمن لا يخون.
وفي توجيهه(ع) لطبيعة الاستماع إلى الآخرين والانتباه جيداً إلى ما يقولون وما يطرحون من أفكار ومفاهيم ومبادىء، يقول(ع): "من أصغى إلى ناطق فقد عبده ـ فعندما تستغرق في كلام متكلّم بحيث تشدّ كل فكرك وقلبك إليه، فهذا نوع من العبادة ـ فإن كان الناطق يؤدي عن الله فقد عبد الله ـ فهو عندما يتحدث إليك عمّا قال الله ورسوله، فأنت تعبد الله بإصغائك إلى هذا الناطق، لأنك تنجذب إلى كلام الله ورسوله ـ وإن كان الناطق ينطق على لسان إبليس فقد عبد إبليس"، فيتحدث بالفتنة والجريمة والخطايا والشر، حتى يثير الناس ويوجّههم إلى ما لا يرضي الله.. لذلك، عندما تنجذبون إلى أيّ خطيب، فعليكم أن تعرفوا من يمثل هذا الخطيب؟ هل يمثّل كلام الله أو أنه يمثّل كلام الشيطان؟
وفي رواية عنه(ع) عن خصال المؤمن، يقول(ع): "المؤمن يحتاج إلى ثلاث خصال: توفيق من الله، وواعظ من نفسه ـ وذلك بأن يفيض عليه من ألطافه بما يفتح عقله، ويغني قلبه، ويأخذ به في خط الهداية، ليملك الوعي والاتزان والاستقامة، فيحاول أن يحاسب نفسه، ويفكر في ما مضى عليه من الزمان؛ هل ما مضى عليه خير أم شر؟ فإن كان خيراً فإنَّه يزداد منه، وإنْ كان شرّاً فإنَّه يُقلع عنه، ولا بدَّ لهذه المسألة من المزيد من الموضوعيّة العقلانية التي تدفعه إلى التمرّد على هواه، وإلى وعي الواقع المحيط به في حساب السلبيّات والإيجابيات على مستوى المصير ـ وقبول مَنْ ينصحه". هناك أناسٌ يأتون إليك لينصحوك في أمر دينك ودنياك، ويبيّنوا لك أخطاءك وليرشدوك إلى الصراط المستقيم، فعليك أن تقبل نصيحة مَنْ ينصحك وتعظ نفسَك بنفسك وتطلب التوفيق من الله.
حتى لا تكون عدوّاً لله
ثم يقول(ع): "لا تكن ولياً لله في العلانية وعدوّاً له في السرّ"، بحيث تكون أمام النّاس مؤمناً خيّراً تحمل "السبحة" بيدك وتسبِّح الله، ولكن إذا خلوت مع نفسك فإنك تصبح عدوّاً لله من خلال أعمالك التي لا يرضاها الله تعالى. ومن هنا، ينبغي للإنسان أن يكون الصادق في علاقته بالله، بحيث تلتقي علانيته بسرّه فلا تنفصل عنها، وذلك بالازدواجيّة بين السرّ والعلن، لأنَّ ذلك يوحي بفقدان التوازن ويؤدي به إلى خسارة المصير، لأنَّه يضع نفسه في دائرة النفاق، وهذا ما يجعله في موقع سخط الله الذي يعامل الناس على واقع أمورهم في الباطن الذي تتمثّل فيه حقيقة الشخصيّة.
وورد عنه(ع): "كفى بالمرء خيانةً أن يكون أميناً للخونة"، بحيث يدافع عنهم ويحفظ أسرارهم ويبرّر لهم خيانتهم.. فهذه من أعظم الخيانة، لأنَّه لا فرق بين من يخون وبين من يكون قوّة للخائن، لأنَّ الخيانة تتمثّل في الذهنية الخيانيّة التي تتجاوز السلوك الإنساني في نفسه إلى الامتداد في الواقع بمساعدة الخائنين.
ويعلّمنا الإمام(ع) عندما نتحرّك مع الزمن ألا ننسب الأشياء إلى الزمن، فقد جاء أحد الأشخاص إلى الإمام عندما تزوّج »أم الفضل« بنت المأمون فقال له: "يا مولاي، لقد عظمت علينا بركة هذا اليوم، فقال(ع): يا أبا هاشم، لقد عظمت بركة الله علينا فيه ـ فلا تنسب البركة إلى اليوم، فإنَّ اليوم لا يملك أن يؤخِّر أو يقدّم، ولكن إذا جاءتك البركات في أيِّ يومٍ وزمان فانسبها إلى الله تعالى، لأنَّه هو الذي يعطي ويمنع ـ فقال الرجل: نعم يا مولاي، فما نقول في اليوم؟ قال(ع): تقول فيه خيراً يصيبك"، عليك أن تتفاءل بالأيام، وليكن تفاؤلك من خلال ثقتك بالله تعالى الذي هو عند حُسن ظنِّ عبده المؤمن، فإذا ظنَّ به خيراً أعطاه الخير ثواباً منه لحسن ظنِّه به.
الغضب لله في مواجهة الانحراف
وفي روايته عن أمير المؤمنين عليٍّ(ع) أنَّه قال لأبي ذر عندما أُبعد من المدينة، وهو يريد أن يهوِّن عليه مشكلته وبلاءه وابتعاده عن مدينة رسول الله(ص) التي قضى فيها كلَّ عمره الإسلاميّ: "إنما غضبت لله عزَّ وجلّ فارْجُ مَن غضبت له ـ إنَّك يا أبا ذرّ لم تغضب لنفسك، لتكون المسألة مسألة شخصيّة تعيش فيها حالة اليأس والقنوط والإحباط، ولكنك غضبت لله، والله هو المهيمن على الأمر كلِّه، غضبت لأنَّك رأيت أنَّ الله يُعصى فنهيت عن المنكر، ورأيتَ الله لا يُطاع فأمرت بالمعروف.. ولذا، فإنَّ القضية هي مع الله، فارْجُ مَن غضبت له..
وهذا درسٌ لكلِّ إنسان مصلح عامل عندما يضطهده الناس المنحرفون أو الظالمون، فإنَّه عندما يغضب لله، سينال منه التعسّف والقسوة والتشويه من خلال غضبه لله، ولذا، عليه ألاَّ يسقط، بل عليه أن يرجوَ الله سبحانه ـ إنَّ القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك ـ الفرق بينك وبين هؤلاء، أنهم انطلقوا في دنيا انحرفوا فيها عن الخط، وكنت تريد أن تعيدهم إلى الخطِّ، ولو أعدتهم إلى خطِّ الاستقامة بعيداً عن خطِّ الانحراف لفقدوا كثيراً من امتيازاتهم الماديّة والمعنوية التي صنعوها لأنفسهم، أما أنت، فلم تنطلق من دنيا تريدها أو من منصب فقدته، أو من مال لم تحصل عليه، وإنَّما انطلقت من خوفك على الدين أن ينحرف به الناس عن الخطِّ المستقيم.. ثم أراد له(ع) أن يفتح له ولكلِّ العاملين في سبيل الله كلَّ أبواب الأمل، فقال(ع): ـ لو أنَّ السموات والأرض كانتا على عبد رتقاً ثم اتّقى الله عزَّ وجلَّ لجعل الله منها مخرجاً ـ ثم قال له(ع) والكلمة لنا جميعاً ـ : لا يؤنسنّك إلاَّ الحقّ ولا يوحشنّك إلاَّ الباطل".
إنَّ أهل الحقّ عندما ينفضُّ الناس عنهم، فإنّهم لا يستوحشون، لأنَّ الحقّ هو الأنيس لهم، والله هو الحقّ، وما يدعون من دونه هو الباطل، أما إذا عاش الإنسان الباطل، فإنَّه لو كان كلُّ الناس معه، فإنَّه يعيش الوحدة، لأنَّ الباطل عندما يحيط به، فإنَّه يعيش الغربة القاتلة.
في عين الله رغم كلِّ التحديات
وهذا أمرٌ لا بدَّ لكلِّ العاملين والمجاهدين في سبيل الله أن يتمثّلوه في أنفسهم، وذلك بأن يكون الحقُّ هو الأنيس الذي يأنسون به، وأن يكون الباطل هو الوحشة التي يستوحشون منها، حتى ينطلقوا في أملٍ كبير في الحياة، وهو ما كان أمير المؤمنين عليٌّ(ع) يقوله: "لا يزيدني كثرةُ الناس حولي عزّةً ولا تفرّقهم عني وحشة"(15). وكان(ع) يقول للنّاس كلِّهم: "لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله"(). ونستوحي من موقف الإمام علي(ع) ـ حسب الرواية ـ في تحدّيه للسلطة بالوقوف مع أبي ذرّ الغفاري في دعمه له بالرغم من نهي السلطة عن ذلك، ما يُوحي إلينا بأن نقف مع المضطهدين من أهل الحقّ عندما يتعرّضون للاضطهاد من السلطة.
وهكذا نجد أنَّ الإمام الجواد(ع) قال له رجلٌ: "أوصني، فقال: أوَتقبل؟ قال: نعم، قال(ع): توسّد الصبر ـ عليك أن تنام على فراش الصبر، بحيث إذا واجهتك الحياة في تحدياتها وبلائها فلا تسقط ـ واعتنق الفقر ـ فإذا داهمك الفقر فلا تعمل على أساس أن تسقط، بل اصبر أمام تحديات الألم والحرمان حتى يفرجها الله تعالى ـ وارفض الشهوات ـ لأنَّها تقودك إلى الابتعاد عن الحق وفقدان التوازن ودخول النّار ـ وخالف الهوى ـ فلا تجعل كلَّ طموحك في الحياة أن تحقّق هوى نفسك، ولكن ادرس هوى نفسك، فإن كان يصدُّك عن الحقّ وينحرف بك عن الله تعالى فخالفه ـ واعلم أنَّك لن تخلو من عين الله".
في أيِّ مكان كنت أنت في رقابة الله، وأنت في الوقت نفسه برعاية الله، لذلك تحرّك في الحياة على أساس أن تراقب نفسك في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، لأنَّ الله يراقبك، وإذا جاءك اليأس والإحباط، فاعلم أنَّك بعين الله ورعايته، فانظر كيف يكون موقفك ومسيرك.
وفي حادثة حصلت مع الإمام الجواد(ع)، أنَّه حُمِل له بزٌّ ـ وهو القماش ـ له قيمةٌ كبيرة، فسُلِب في الطريق، فكتب إليه الذي كان يحمله ليعلمه بذلك، فوقّع بخطه الشريف: "إنَّ أنفسنا وأموالنا من مواهب الله الهنيئة وعواريه المستودَعة ـ فأنفسنا التي خلقها الله هي عارية مستعارةٌ أودعها الله عندنا إلى وقت معلوم، وأموالنا أيضاً أعارنا الله إيّاها في فترةٍ من عمرنا ـ يُمتّع بما متّع منها في سرور وغبطة ـ فما دام أنَّ الله تعالى قد مهّل لنا فيها، فسوف نستمتع بنفوسنا وأموالنا في غبطةٍ ومصلحة ـويُؤخَذ ما أُخذ منها في أجرٍ وحسبة ـ وعندما يأخذها الله، فإنَّنا نحتسبها عند الله ليعطينا الأجرَ في ذلك ـ فمن غلب جزعه على صبره حبط أجره ونعوذ بالله من ذلك"(17).
وفي هذا الحديث عظة للمؤمن أن لا يعيش السقوط النفسي والحزن القلبي أمام الخسارة المادية، بل أن يرتفع بوعيه للحياة أنها قد تحمل للإنسان الربح من خلال الظروف الملائمة، كما قد تحمل له الخسارة التي تحدث بسبب الظروف القلقة، فيتقبل هذا أو ذاك من دون انفعال خارج عن حدود التوازن، بل يلجأ إلى إيمانه بالله الذي يوحي إليه بأن المال عارية في يد الإنسان من الله وموهبة إلهية له، وأن الله قد يستردها بين وقت وآخر تبعاً للسنن الكونية والتاريخية التي أودعها الله في حياة الإنسان في تأثيرها السلبي أو الإيجابي عليه، الأمر الذي يحقق له التوازن الشعوري أمام الأحداث، على هدى الآية الكريمة في قوله تعالى: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم..} [الحديد:23]، وهذا هو الذي يجعله في موقف الإنسان الصابر الذي يلجأ إلى الله في إيمانه ليمنحه قوة الصبر، لا الإنسان الجازع الذي يعيش الضعف في نفسه بما يجعله يسقط أمام التحديات، وهو ما لا يريده الله للإنسان الذي يتحمل مسؤولية الحياة في كل قضاياه في حاجته إلى قوة الإرادة ووعي الواقع وصلابة الموقف.
تعليمه وتوجيهه لأصحابه
كتب إلى أحد أصحابه وكان متولياً لأعماله (في نشر أفكار أهل البيت وجمع الحقوق الشرعية): "بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي (علي بن مهزيار الأهوازي) أحسن الله جزاك وأسكنك جنّته، ومنعك من الخزي في الدنيا والآخرة، وحشرك الله معنا، يا عليّ، قد بلوتُك وخيّرتك في النصيحة والطاعة والخدمة والتوقير والقيام بما يجب عليك، فلو قلت إنّي لم أرَ مثلك، لرجوت أن أكون صادقاً، فجزاك الله جنّات الفردوس نُزُلاً، فما خفي عليّ مقامك ـ فهو(ع) يتابع أعمال مواليه حتى وهم في الأمصار البعيدة ـ ولا خدمتك في الحرّ والبرد، في الليل والنهار، فأسأل الله إذا جمع الخلائق للقيامة أن يحبوك برحمة تغتبط بها إنَّه سميع الدعاء"(18).
إنّ هذا الكتاب يدلّ على أنّ الإمام الجواد(ع) كان في أسلوبه التشجيعي للمخلصين من أصحابه، يؤكد لهم الثقة بهم والتقويم لأعمالهم ولدرجاتهم في الإخلاص والنصيحة والطاعة، ليزدادوا بذلك إخلاصاً، وليشعروا بأنّ القيادة الإسلامية الإمامية غير بعيدةٍ عن كلّ ممارساتهم الصحيحة الخالصة، وهذا ما ينبغي للقياديين أن ينهجوه ويقتدوا به في عملية إيحاء بالتقدير للقاعدة في متابعاتها ومبادراتها الخيّرة.
تشجيع الإمام الجواد(ع) على الإحسان
يطلب منه أحد الموالين أنَّ والياً للعباسيِّين يتولّى أهل البيت(ع)، وكان هذا الشخص ممن أثقل عليهم دفع الخراج للسلطة، فطلب من الإمام الجواد أن يكتب إليه ليخفّف عنه كونه من "محبّيكم"، فأخذ القرطاس وكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد، فإنَّ موصل كتابي هذا ذكر عنك مذهباً جميلاً، وإنَّ لك من عملك ما أحسنتَ فيه، فأحسنْ إلى إخوانك، واعلم أنَّ الله عزَّ وجلّ سائلُك عن مثاقيل الذرّ والخردل"(19)
إن هذه الرسالة توحي بأنّ وصيّة الإمام لهذا الوالي بالإحسان إلى إخوانه لم تقتصر على الجانب الشخصي في الوصية، بل تعدّتها إلى المنهج الذي لا بد للوالي أن يتبعه في موقع ولايته في الإحسان في عمله، فلا يكون الموقع السلطوي لديه شأناً شخصياً يزهو به وامتيازاً يرتفع به عن الناس، بل مسؤولية في ممارسته الإحسان في عمله بكلِّ الوسائل والأساليب التي يجد فيها إخوانه والناس الآخرون حركة الإحسان إليهم في ذلك، بما يفرضه الموقع من خدمتهم، كما أنّ الوصية أرادت له أن يكون دقيقاً في حساباته في ما اؤتمن عليه من خلال إيمانه بأنّ الله سوف يسأله عن أقلّ الأشياء حتى عن مثاقيل الذرّ والخردل، كتعبير عن أصغر الأمور في حساب المسؤولية.. وهذا ما يوحي بأنّ الإمام الجواد(ع) كان يتابع شيعته الذين يتولّون مسؤوليّة رسميّة في مواقعهم في سلطة الخلافة، ليوجّههم إلى أن يكونوا النموذج الأمثل للمؤمن المسؤول في الإحسان في عمله وفي محاسبة نفسه وفي الإحسان إلى إخوانه.
********************************************
بتصرف من موقع ((بينات ))
الثلاثاء، 28 أبريل 2015
شهر رجب الأصبّ .. بوابة الى واحة التوبة
ان شهر رجب الأصبّ، وهو بالحقيقة بوابة لأشهر التوبة والرحمة الالهية، يدلف
من خلالها الانسان الى عالَم الصفاء والنقاء لتكون له استراحة من عناء
الجري خلف الماديات والملذّات التي لا تنتهي
ان اول محطة في طريق السعادة هو التوبة الى الله، حيث يلقي الانسان في شهر رجب الأصبّ ما علق به من أدران الذنوب والخطايا الصغيرة منها والكبيرة، إنها لفرصة كبيرة وذهبية ربما لاتعوّض ولن تتكرر، فمن يدري...؟ ربما يكون هذا الشهر هو الأخير في حياتنا، وقال النبي الأكرم عن هذا الشهر العظيم بانه (شهر الاستغفار لأمتي... ويسمى رجب بالأصب، لأن الرحمة على أمتي تُصب صباً فيه فاستكثروا من قول أستغفر الله وأسأله التوبة).
ان اول محطة في طريق السعادة هو التوبة الى الله، حيث يلقي الانسان في شهر رجب الأصبّ ما علق به من أدران الذنوب والخطايا الصغيرة منها والكبيرة، إنها لفرصة كبيرة وذهبية ربما لاتعوّض ولن تتكرر، فمن يدري...؟ ربما يكون هذا الشهر هو الأخير في حياتنا، وقال النبي الأكرم عن هذا الشهر العظيم بانه (شهر الاستغفار لأمتي... ويسمى رجب بالأصب، لأن الرحمة على أمتي تُصب صباً فيه فاستكثروا من قول أستغفر الله وأسأله التوبة).
السبت، 25 أبريل 2015
الأربعاء، 22 أبريل 2015
دروس من حياة الامام الهادي (عليه السلام ) في ذكرى استشهاده ((الإمام الهادي (ع) عمر حافل بالعلم والجهادفي مواجهة الانحراف)) السيد محمد حسين فضل الله (قدس سره )
عاش الإمام الهادي(ع) قياساً إلى العمر الطبيعي عمراً قصيراً، فقد كان عمره يوم وفاته إحدى وأربعين سنةً، وكان مولده(ع) في النصف من ذي الحجة سنة 212هـ في "صريا" من المدينة، وهي قريةٌ أسَّسها الإمام الكاظم(ع) على ثلاثة أميال من المدينة، وتُوفّي في سامرّاء(1). وقد عاش حياته هذه في نشاط دائم متحرّك في الثقافة الإسلاميّة، فقد كان يعلّم الناس، ويعلّم العلماء منهم، حتى ذُكِر أنَّ الذين رووا عنه علومه بلغوا ما يقارب المائة وخمسةٍ وثمانين راوياً، والراوي عادةً يمثّل موقعاً ثقافياً متقدماً في ذلك الوقت، وقد روى المؤرخون أنَّ من ثقاته: "أحمد بن حمزة بن اليسع، وصالح بن محمد الهمداني، ومحمد بن جزال الجمّال، ويعقوب بن يزيد الكاتب، وأبو الحسين بن هلال، وإبراهيم بن إسحاق، وخيران الخادم، والنضر بن محمد الهمداني. ومن وكلائه: جعفر بن سهل الصّقل. ومن أصحابه: داود بن زيد، وأبو سليمان زنكان، والحسين بن محمد المدائني، وأحمد بن إسماعيل بن يقطين، وبشر بن بشّار النيشابوري الشاذانيّ، وسليم بن جعفر المروزيّ، والفتح بن يزيد الجرجانيّ، ومحمد بن سعيد بن كلثوم، ومعاوية بن حكيم الكوفيّ، وعليّ بن معد بن معبد البغداديّ، وأبو الحسن ابن رجا العبرتائي"(2).
وتحرّك(ع) في حياة النّاس بحيث يراقب ويتصدّى لكلِّ الانحرافات التي تعرّض لها الواقع الإسلاميّ، لأنَّ مسؤوليّة الأنبياء والأولياء والعلماء في كلِّ زمان ومكان، هي أن يدرسوا كلَّ الخطوط التي تتحرّك في الثقافة الإسلاميّة أو في الواقع الإسلامي، ليصلحوا الخطأ، وليقوّموا الانحراف بالأساليب التي وضعها الله تعالى في كتابه، بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن.
وقد واجه الإمام الهادي(ع) كثيراً من المشاكل الفكريّة التي كانت قد فرضت نفسها على الذهنيّة الإسلامية لتنحرف بها عن الصواب، فقد حدثت في زمنه مشكلة الذين يقولون بالجبر، وأنَّ الله تعالى أجبر عباده على أعمالهم، فليس للعباد اختيارٌ في ما يطيعون أو يعصون، فالطاعة من الله والمعصية منه.
وكان هناك اتجاه التفويض الذي يقول إنَّ الله تعالى فوّض الأمر إلى خلقه، فهو خلقهم وانعزل عنهم، أو فوّض الأمر إلى بعض خلقه، بمعنى أنَّ الله تعالى خلق الناس وجعل الأمر للأنبياء مثلاً، فلا يتدخّل في شؤون النّاس، ولكن تبقى قدرة الله وهيمنته وتدبيره للناس، بما لا يبعدهم عن رعايته وتدبيره وسلطته.
كان أصحاب هذين الاتجاهين بحسب الظاهر خارج المدينة، فأرسل الإمام الهادي(ع) رسالةً شارحاً لهم حقائق الأمور، ومبيِّناً لهم بالدليل من العقل والنقل بطلان الجبر والتفويض، ودعاهم إلى الاستقامة في خطِّ الله سبحانه وتعالى، كما واجه الغلاة الذين حاولوا أن يحرّكوا خرافاتهم في الذهنيّة العامة، وخصوصاً أنَّ كثيراً من الذهنيّات التي تعيش في المجتمع هي ذهنيّات طيّبة تقبل كلَّ شيء، وهذا يحدث في كلِّ زمانٍ ومكان.
فيقول في هذه الرسالة: "من عليِّ بن محمد، سلامٌ عليكم وعلى من اتبع الهدى ورحمة الله وبركاته، فإنَّه ورد عليَّ كتابكم، وفهمتُ ما ذكرتم من اختلافكم في دينكم، وخوضكم في القدر، ومقالة مَنْ يقول منكم بالجبر ومَنْ يقول بالتفويض، وتفرُّقكم في ذلك وتقاطعكم وما ظهر من العداوة بينكم، ثم سألتموني عنه وبيانه لكم، وفهمت ذلك كلَّه..
فأمَّا الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ، فهو قولُ من زعم أنَّ الله جلَّ وعزَّ أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها، ومن قال بهذا القول، فقد ظلم الله في حكمه وكذّبه وردَّ عليه قوله: {ولا يظلمُ ربُّك أحداً}[الكهف:49] وقوله: {ذلك بما قدّمَتْ يداكَ وأنَّ الله ليس بظلاّمٍ للعبيد}[الحج:10] وقوله: {إنَّ الله لا يظلمُ النّاسَ شيئاً ولكنَّ الناسَ أنفُسَهُم يظلمون}[يونس: 44] مع آي كثيرة في ذكر هذا. فمن زعم أنَّه مجبرٌ على المعاصي، فقد أحال بذنبه على الله وقد ظلمه في عقوبته، ومن ظلم اللهَ فقد كذّب كتابَه، ومن كذّب كتابه فقد لزم الكفر بإجماع الأمّة.. وأمَّا التفويض الذي أبطله الصادق(ع) وأخطأ مَنْ دان به وتقلّده فهو قول القائل: إنَّ الله جلَّ ذكره فوّض إلى العباد اختياراً أمره ونهيه وأهملهم، وفي هذا كلامٌ دقيق لمن يذهب إلى تحريره ودقته، وإلى هذا ذهبت الأئمة المهتدية من عترة الرسول(ص)، فإنَّهم قالوا: لو فوّض إليهم على جهة الإهمال، لكان لازماً له رضى ما اختاروه واستوجبوا منه الثواب، ولم يكن عليهم في ما جنوه العقاب إذا كان الإهمال واقعاً.. فمن زعم أنَّ الله تعالى فوّض أمره ونهيه إلى عباده، فقد أثبت عليه العجز وأوجب عليه قبول كلِّ ما عملوا من خيرٍ أو شرٍّ، وأبطل أمر الله ونهيه ووعده ووعيده، لعلّة ما زعم أنَّ الله فوّضها إليه، لأنَّ المفوَّض إليه يعمل بمشيئته، فإن شاء الكفر أو الإيمان كان غير مردود عليه ولا محظور، فمن دان بالتفويض على هذا المعنى، فقد أبطل جميع ما ذكرنا من وعده ووعيده وأمره ونهيه، وهو من أهل هذه الآية: {أفتؤمنونَ ببعض الكتاب وتكفُرونَ ببعضٍ فما جزاءُ مَن يفعلُ ذلك منكم إلاَّ خِزيٌ في الحياة الدنيا ويومَ القيامة يُرَدُّونَ إلى أشدِّ العذاب وما اللهُ بغافلٍ عمّا تعملون}[البقرة:85]، تعالى عما يدين به أهل التفويض علوّاً كبيراً.
لكن نقول: إنَّ الله جلَّ وعزَّ خلق الخلق بقدرته وملّكهم استطاعة تعبّدهم بها، فأمرهم ونهاهم بما أراد، فقبل منهم اتباع أمره ورضي بذلك لهم، ونهاهم عن معصيته، وذمَّ من عصاه، وعاقبه عليها، ولله الخِيَرَةُ في الأمر والنهي، يختار ما يريد ويأمر به وينهى عمّا يكره ويعاقب عليه بالاستطاعة التي ملّكها عبادَه لاتّباع أمره واجتناب معاصيه، لأنَّه ظاهر العدل والنصفة والحكمة البالغة، بالغ الحجّة بالإعذار والإنذار، وإليه الصفوة يصطفي من عباده مَن يشاء لتبليغ رسالته واحتجاجه على عباده، اصطفى محمداً(ص) وبعثه برسالاته إلى خلقه"(3).
وفي زمن الإمام الهادي(ع) جاء مَن يدّعي بأنَّ الإمام هو الربُّ، وهو النبيّ، وأنَّ الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر هي معرفة الإمام، وقد استغلَّ أصحاب هذا الاتجاه حبَّ الناس لأهل البيت(ع)، وقدّموا أنفسهم على أنَّهم من المحبّين لهم، وبدأوا ينشرون هذه الأفكار، فكتب بعض الأصحاب إلى الإمام الهادي(ع): "جعلت فداك يا سيدي، إنَّ عليَّ بن حسكة أحد الغلاة يدّعي أنَّه من أوليائك، وأنَّك أنت الأوّل القديم، وأنَّه بابك ونبيّك، أمرته أن يدعو إلى ذلك، ويزعم أنَّ الصلاة والزكاة والحجَّ والصوم، كلُّ ذلك معرفتُك، ومعرفةُ من كان مثل ابن حسكة في ما يدّعي من البابيّة والنبوّة ـ أي أنَّه بابُ الإمام والنبيّ من قِبَلِه ـ فهو مؤمنٌ كامل سقط عنه الصلاة والصوم والحج ـ أي لم يعد مكلّفاً بالحجّ والصوم والصلاة ـ ومال إليه كثير، فإن رأيت أن تمُنَّ على مواليك ـ شيعتك ـ بجواب في ذلك تنجيهم من الهَلَكَة".
فكتب الإمام الهادي(ع): "كذب ابن حسكة عليه لعنة الله، وبحسبك أنّي لا أعرفه في مواليَّ، ما له؟ لعنه الله، فوالله ما بعث الله محمداً والأنبياء قبله إلا بالحنيفيّة والصلاة والزكاة والحج والصيام والولاية، وما دعا محمد(ص) إلاَّ إلى الله وحده لا شريك له، وكذلك نحن الأوصياء من وُلْده عَبيدُ الله، لا نشرك به شيئاً، وإن أطعناه رحمنا، وإنْ عصيناه عذّبنا، ما لنا على الله من حجّة، بل الحجّة لله علينا وعلى جميع خلقه، أبرأ إلى الله ممن يقول ذلك، وأنقض إلى الله من هذا القول، فاهجروهم لعنهم الله وألجئوهم إلى ضيق الطريق"(4).
إنّ هذه الرسالة تؤكد القاعدة الإيمانية في خطِّ أئمة أهل البيت(ع) في نفي الغلوّ الذي يرتفع بهم إلى ما يقرب من درجة الألوهية بشكل مباشر من خلال تجسّد الله فيهم، أو بغير ذلك أو بشكل غير مباشر في اتصافهم بصفات الله، بحيث تكون العبادة لهم والرزق والحياة والموت منهم وما إلى ذلك.. لتكون لهم دعوى النبوّة عنهم، أو البابية لهم.. وهذا ما رفضه الإمام(ع) رفضاً قاطعاً، بتأكيد العبودية المطلقة لله، وبأنهم المأمورون بإطاعة أوامره ونواهيه، والمنهيون عن عصيانها، لأنّ المعصية تستتبع العقاب عليها، فلله الحجة عليهم كما هي الحجة على خلقه، وليس لهم على الله حجة من موقع العبودية، ثم كان الإعلان للبراءة من هؤلاء من خلال البراءة من هذا الفكر الكافر المنحرف، والتأكيد على هجرانهم وتضييق الأمر عليهم..وهذا ما ينبغي لنا أن ننفتح عليه ونؤكده أمام كلِّ الانحرافات التي تأخذ بالغلوّ أو بما يقرب منه في الاقتراب بهم إلى مواقع الألوهية، كما لو كانوا يقومون بدور الله في الخلق والرزق والإحياء والإماتة ولكن بإذنه.
وقد كان للإمام الهادي(ع) نشاط واسعٌ في تأكيد المفاهيم الإسلامية وتعليم النّاس الأحكام الشرعيّة، وتركيز قاعدة إيمانية ولائية شعبيّة ممتدّة في أكثر من بلد، فقد كان للإمام جهازٌ متحرّك متنوّع يغطي الكثير من أخبار الناس هنا وهناك، ويحمل تعاليمه إليهم بطريقة دقيقة جدّاً.. وقد جاء في بعض رسائله لوكلائه التي تحمل طابع التنظيم والتوجيه "نسخة الكتاب مع ابن راشد إلى جماعة الموالي الذين هم ببغداد، المقيمين بها والمدائن والسواد وما يليها: أحمَدُ اللهَ إليكم ما أنا عليه من عافيةٍ وحُسن عائدة، وأُصلّي على نبيِّه وآله أفضل صلواته وأكمل رحمته ورأفته، وإنّي أقمت أبا عليٍّ بن راشد مقام الحسين بن عبد ربّه، ومَن كان قبله من وكلائي وصار في منـزلته عندي، وولّيته ما كان يتولاّه غيره من وكلائي قبلكم ليقبض حقّي، وارتضيته لكم، وقدّمته في ذلك وهو أهلُه وموضعه.. فصيروا ـ رحمكم الله ـ إلى الدفع إليه ذلك وإليَّ، وألاّ تجعلوا له على أنفسكم علّة، فعليكم بالخروج عن ذلك، والتسرّع إلى طاعة الله وتحليل أموالكم والحقن لدمائكم، وتعاونوا على البرِّ والتّقوى ولا تعاونوا على الإثمِ والعدوان، واتقوا الله لعلكم ترحمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تموتُنَّ إلاّ وأنتم مسلمون، فقد أوجبت في طاعته طاعتي، والخروج إلى عصيانه الخروج إلى عصياني، فالزموا الطريق يأجركم الله ويزيدكم من فضله، فإنَّ الله بما عنده واسعٌ كريم، متطوِّل على عباده رحيم، نحن وأنتم في وديعة الله وحفظه، وكتبتُه بخطّي والحمد لله كثيراً"(5).
إنّ التدقيق في هذه الرسالة يرينا أنَّ الإمام الهادي(ع) كان يملك جهازاً منظّماً من الوكلاء الذين كان يراقبهم ويعمل على تبديلهم بين وقت وآخر لأسباب مختلفة في ذلك، وأن هناك مسؤولية في جباية أموال الخمس التي يحتاجها للمسؤوليات الكبرى التي يتحملها في موقع الإمامة، وأنه يوصي أصحابه بالالتزام به والتعاون معه على البرِّ والتقوى، لا على الإثم والعدوان، ما قد يوحي بضرورة المراقبة لعمله بالرغم من كونه مرضيّاً عند الإمام، ليحددوا الموقف معه على أساس استقامته في خطِّ الطاعة لله، ليكون الالتزام في دائرة الانضباط في مسؤولية الوكالة والوقوف عند الطريق المستقيم.. وربما نستوحي من هذا الأسلوب في إدارة أمر الإمامة مع قاعدتها من خلال الوكلاء الشرعيين، أنه هو الأساس في نظام الوكلاء في المرجعيات الدينية كأساس للارتباط بين المرجعية وقاعدتها في قضايا الحقوق الشرعية والالتزامات الدينية في غياب السلطة الرسمية.
وقد استطاع هذا الجهاز السير في هذا الخطّ، فجعل للإمام شعبيّة كبيرة لدى المسلمين، ممن كان يعتقد بإمامته، وممن كان لا يعتقد بها، حتى خاف خلفاء بني العبّاس الذين عاصرهم(ع) على ملكهم منه، من خلال محبة الناس لأهل البيت(ع)، ومن ثقة الناس بهم وإحساسهم بقداستهم.
فعندما نقرأ تاريخ الإمام الهادي(ع)، فإنّنا نستوحي منه أنَّه كان محلَّ احترام الناس وتقديرهم في الحرمين ومكة والمدينة، ومن الطبيعي أن يكون هذا التقدير وهذا الاحترام بمستوى استثنائي، إذ لا بدَّ أن يكون ناشئاً من خلال القيادة الفكريّة والروحية والحركيّة التي كانت تدخل إلى كلِّ عقل وإلى كلّ قلب، لأنَّه ليس من الطبيعي أن يأخذ إنسانٌ هذا المستوى من الإكبار والتعظيم بدون أن يترك تأثيره في عقول النّاس وقلوبهم وحياتهم، مع ملاحظة أن أهل الحرمين لم يكونوا على رأي واحدٍ من المذهبية، بل كانوا يختلفون، حيث لم يُعهد أنَّ الناس في مكة والمدينة كانوا آنذاك إماميّين يتشيّعون لأهل البيت(ع)، بل كانوا مختلفين في آرائهم المذهبيّة، ومع ذلك تراهم يلتقون على احترام شخصيّة الإمام الهادي(ع).
وما يفسّر هذا النوع من الشعبيّة للإمام(ع)، الرسالة التي بعث بها أحد المسؤولين في المدينة إلى الخليفة العباسيّ (المتوكل)، ثم من خلال ردود الفعل عندما أُريد للإمام(ع) أن ينتقل من المدينة إلى بغداد أو إلى سامراء.. ففيما رواه المسعودي في مروج الذهب، قال: "كتب بريحة صاحب الصلاة بالحرمين إلى المتوكّل، إن كان له بالحرمين حاجة، فأخرج عليَّ بن محمد (الهادي) منها، فإنَّه قد دعا إلى نفسه واتّبعه خَلْقٌ كثير، وتابع بريحة الكتب في هذا المعنى، فوجّه المتوكّل بيحيى بن هرثمة، وكتب معه إلى أبي الحسن كتاباً جليلاً يعرّفه أنَّه قد اشتاق إليه ويسأله القدوم عليه، وأمر يحيى بالسير معه كما يحبّ، وكتب إلى يحيى يعرّفه ذلك"(6).
من هذا نعرف أنَّ بريحة من بني العبّاس، وهو من عائلة الخلافة، ويكتب إلى المتوكّل أنّ الحرمين كادا أن يكونا تحت إمرة الإمام الهادي(ع)، ونحن نعرف أنَّ الإمام الهادي(ع) لم يكن في موقع الدعوة إلى الثورة ضدّ الخلافة العباسيّة، لعدم توفّر الظروف الموضوعية لذلك، والتي لم تكن تسمح بمثل هذا العمل، ولكنَّ هذا الرجل رأى أنَّ الناس تلتفُّ حول الإمام التفافاً يوحي أنَّ الناس يرون فيه ذلك، ويعتقدون أنَّه الشخص المفضّل والمؤهّل لإدارة أمور النّاس، من هنا، كانت هذه الرسالة التي تُشعر مركز السلطة بالخطر الذي تحسّسه (بريحة)، ما دعاه إلى متابعة الكتابة للمتوكّل في أمر الإمام الهادي(ع).
قداسةٌ عاشت في وجدان المسلمين
إنَّنا نرى أنَّه رغم خوف السلطة من أهل البيت(ع)، كانوا لا يستطيعون أن يُنكروا فضلهم والإحساس برفعتهم وقداستهم، ونضرب على ذلك عدّة أمثلة:
المثل الأوّل: يذكر المؤرّخون أنَّ المتوكل "مرض من خُراج (ما يخرج في البدن من القروح) خَرَج به فأشرف منه على الموت، فلم يَجْسُرْ أحدٌ أن يمسَّه بحديدةٍ، فنذرت أمُّه إنْ عُوفيَ أن تحمل إلى أبي الحسن عليّ بن محمد (الهادي) مالاً جليلاً من مالها، فلما عُوفِيَ المتوكّل بعد هذا النذر فبُشّرت أمُّ المتوكّل بعافيته، فحملت إلى أبي الحسن(ع) عشرة آلاف دينار تحت خَتْمِها، واستقلَّ المتوكّل من علّته.. فلما كان بعد أيّام، سعى البطحاني (أحد أعوان السلطة) بأبي الحسن(ع) إلى المتوكّل وقال: عنده سلاحٌ وأموال، فتقدّم المتوكّل إلى سعيد الحاجب أن يهجم ليلاً عليه، ويأخذ ما يجد عنده من الأموال والسلاح ويحمله إليه، وهنا يحدّث إبراهيم بن محمد بأنَّ سعيد الحاجب قال له: صرتُ إلى دار أبي الحسن(ع) بالليل، ومعي سُلّمٌ، فصعدتُ منه إلى السطح ونزلتُ من الدرجة إلى بعضها في الظُّلمة، فلم أدرِ كيف أصل إلى الدار، فناداني أبو الحسن(ع) من الدار: "يا سعيد، مكانك حتى يأتوك بشمعة"، فلم ألبث أن أتوني بشمعةٍ، فنزلت فوجدتُ عليه جُبّة صوف وقلنسوة منها وسجّادته على حصير بين يديه وهو مقبلٌ على القِبلة. فقال لي: "دونك البيوت"، فدخلتها وفتشتها فلم أجد فيها شيئاً، ووجدت البدرة مختومةً بخاتم أمِّ المتوكّل، وكيساً مختوماً معها، فقال لي أبو الحسن(ع): "دونك المصلّى"، فرفعته فوجدتُ سيفاً في جفنٍ ملبوس. فأخذتُ ذلك وصرتُ إليه، فلما نظر (المتوكل) إلى خاتم أمِّه على البَدْرَةِ بعث إليها فخرجت إليه، فسألها عن البدرة، فأخبرني بعضُ خَدَمِ الخاصّة أنَّها قالت: كنت نذرتُ في علّتك إنْ عُوفيت أن أحمل إليه من مالي عشرة آلاف دينار، فحملتها إليه، وهذا خاتَمُك على الكيس ما حرّكه (لم يفتح الإمام(ع) الصرّة)، وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربعمائة دينار، فأمر أن يُضمَّ إلى البدرة بدرةٌ أخرى، وقال لي: احملْ ذلك إلى أبي الحسن، واردُد عليه السيف والكيس بما فيه. فحملت ذلك إليه واستحييت منه، فقلت له: يا سيدي، عزَّ عليَّ دخول دارك بغير إذنك، ولكني مأمور، فقال لي: {وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون}(7)[الشعراء:227].
وهكذا نشاهد أنَّ أمَّ المتوكّل عندما مرض ولدها لم تجد أحداً في المجتمع الإسلاميّ تتقرّب وتتشفّع به إلى الله غير الإمام الهادي(ع)، ما يدلّنا على أنَّ قداسة الإمام الهادي(ع) كانت تعيش في وجدان المسلمين، حتى في داخل بيت الخلافة المناهضة لخطِّ الأئمة عليهم السلام. كما أننا نستفيد منها كيف كانت حياة الإمام الهادي(ع) في بيته من حيث خشونة ملبسه وتواضعه لله في موقع صلاته، وكيف كانت مكتبته مملوءة بالمصاحف وكتب العلم.
المثل الثاني : هو أنّ الشخص الذي أرسله المتوكّل إلى المدينة (وهو يحيى بن هرثمة)، ليأتي بالإمام منها إلى "سامراء" حتى يضعه تحت نظره وأمره بإكرامه وإعظامه، يحدّث فيقول: "فذهبت إلى المدينة، فلما دخلتها ضجَّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله خوفاً على عليّ (الهادي)، وقامت الدنيا على ساق (الجميع خرج مذهولاً)، لأنَّه كان محسناً إليهم، ملازماً للمسجد، لم يكن عنده ميلٌ إلى الدنيا.. قال يحيى: فجعلت أسكّنهم، وأحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه، وأنَّه لا بأس عليه، ثم فتّشت منزله، فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعيةً وكُتُبَ العلم، فعظُم في عيني، وتولّيت خدمته بنفسي وأحسنت عشرته"(8).
أمّا المثل الثالث: فهو أنَّ هذا الرجل نفسه (يحيى) يحدّث أيضاً ويقول: "فلما قدمت به بغداد، بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهريّ، وكان والياً على بغداد، فقال لي: يا يحيى، إنَّ هذا الرجل قد ولده رسول الله(ص) والمتوكّل مَن تعلم، فإن حرّضته عليه قتله، وكان رسولُ الله خصمَك يوم القيامة، فقلت له: والله ما وقعت منه إلاَّ على كلِّ أمرٍ جميل، ثم صرت به إلى سُرّ مَن رأى (سامرّاء)، فبدأت بوصيف التركي، فأخبرته بوصوله، فقال: لئن سقطت منه شعرةٌ لا يطالَبُ بها سواك، قال: فعجبتُ كيف وافق قولُه قولَ إسحاق، فلما دخلت على المتوكّل، سألني عنه، فأخبرته بحسن سيرته، وسلامة طريقه وورعه وزهادته، وأنّي فتشت داره فلم أجد غير المصاحف وكُتُبَ العلم، وأنَّ أهل المدينة خافوا عليه، فأكرمه المتوكّل وأحسن جائزته وأجزل برّه وأنزله معه سُرَّ من رأى"(9).
ونستطيع أن نأخذ فكرةً عن احترام الناس للإمام(ع) من خلال قصّة يرويها محمد بن الحسن بن الأشتر العلويّ، قال: "كنت مع أبي بباب المتوكّل، وأنا صبيّ في جمعٍ من الناس، ما بين طالبيّ (هاشمي) إلى عباسيّ إلى جنديّ إلى غير ذلك، وكان إذا جاء أبو الحسن(ع) ترجّل الناس كلُّهم حتى يدخل. فقال بعضهم لبعض: لِمَ نترجّل لهذا الغلام، وما هو بأشرفنا ولا بأكبرنا ولا بأسنّنا ولا بأعلمنا؟ فقالوا: والله لا ترجّلنا له، فقال لهم أبو هاشم (الجعفريّ): والله لترجلنَّ له صَغاراً وذلةّ إذا رأيتموه، فما هو إلاّ أن أقبل وبصروا به، فترجّل له الناس كلُّهم، فقال لهم أبو هاشم: أليس زعمتم أنَّكم لا تترجّلون له؟ فقالوا: والله ما ملكنا أنفسنا حتى ترجّلنا"(10).
إنَّ هذه الأمور والوقائع تدلُّ على أنَّ عظمة الإمام وهيبته وقداسته تجاوزت شيعته، وامتدّت حتى إلى المواقع التي قد تعاديه وتخاصمه وتظلمه، وهذا لا يتأتّى لأيِّ أحد، وإنَّما يحصل للذين انفتحوا على الله، فأدخل الله هيبتهم في نفوس النّاس حتى أعدائهم، وخدموا الناس بكلِّ ما عندهم من طاقة، حتى تعلّق الناس بهم من خلال ما قدّموه لهم، وأعطوا العلم حتى وصلوا إلى الدرجة التي يشعر فيها حتى العلماء بحاجتهم إليهم.
كان الأئمة(ع) يعيشون مع القاعدة في الساحة، لم يعِش أحدٌ منهم في برج عاجيّ، ولذلك كان الخلفاء يحملون العقدة ضدّهم من خلال هذا الامتداد الشعبي الذي يملكونه في الأمّة، لأنَّ أمثال هؤلاء الخلفاء لا يريدون لأيِّ رمز إسلاميّ كبير أن يحصل على هذه الثقة الممتدّة في الواقع الإسلاميّ، لا سيما إذا كان هذا الرمز ممن يعتقد فريقٌ من الأمة بإمامته، لأنَّ المسألة عندهم تحوّلت إلى خطر على الكرسي والمُلْك..
ولذلك، لو درسنا تاريخ أكثر الأئمة(ع)، لرأينا الجواسيس يحيطون بهم من كلِّ جانب، ممن قد يخبرون صدقاً وممن قد يفترون كذباً، ورأينا أنَّ الحاكمين آنذاك يعملون على التعسّف في تصرفاتهم معهم، فقد يسجنون إماماً هنا، وقد يحاصرونه في بيته هناك، وقد يستقدمونه من بلده إلى مركز سلطتهم ليكون تحت رقابتهم. ولكن ذلك كلّه لم يمنع شيعتهم من الاتصال بهم والدخول في التنظيم الإداري لهم والاستفادة من علومهم واتباع تعاليمهم، بالرغم من كل الأوضاع الصعبة المحيطة بهم، كما أنّ ذلك لم يمنع الأئمة(ع) من التحرك في المجتمع والحصول على مواقع الثقة العميقة الواسعة فيه.
المصدر / موقع العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (قدس سره )
الثلاثاء، 21 أبريل 2015
شخصيات لهم بصمة ابداع في بلادي ((( كامل الدباغ )))
كامل أدهم الدباغ (1925 - 2000) مقدم برنامج (العلم للجميع )
كان كامل الدباغ رائدا من رواد المجتمع العراقي على مدى أربعة و ثلاثين عاما ببرنامجه (العلم للجميع) الذي نشر وعيا علميا عند عامة العراقيين، و ألهم الكثير من شباب العراق بما أثاره عندهم من حب للعلم و المعرفة، و كان لكامل الدباغ أثر كبير في حياتهم العملية و هو من أعطاهم الحافز للوصول إلى مراكز علمية عالية داخل و خارج العراق.
ويعتبر كامل الدباغ هوالذي أدخل فكرة التوقيت الصيفي الذي طبق في العراق منذ عام 1981 ولغاية 2008
ولم يكن الدباغ مجرد مقدم برنامج تلفزيوني ناجح على أهمية هذا الوصف، بل كان قبل ذلك رجل علم وثقافة واسعة، وإن كان تخصصه الدقيق في علم الفيزياء، إذ كان خريجا لدار المعلمين العالية قسم الرياضيات والفيزياء، وكان في شبابه مولعا بقراءة الكتب العلمية والأدبية والروايات العالمية ودواوين الشعر، إلا أنه كان موسوعي المعرفة، واسع الإطلاع غزير الإنتاج، وعلى دراية كافية لما يتطلبه تقديم البرنامج عبر شاشة التلفاز فكان (العلم للجميع) له الأثر الكبير والبالغ على كل العراقيين.
المصدر // ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)